كلمة السيد الحكيم في المؤتمر الـ ١٨ للرابطة العالمية للمسلمين في أمريكا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين.
الإخوة والأخوات الحضور ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال تعالى في محكم كتابه العزيز "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ " آل عمران (104)
-أتقدم في البدء بالشكر و التقدير للإخوة في الرابطة الإسلامية العالمية في الولايات المتحدة الأمريكية على رعايتهم و توليهم اقامة هذا المؤتمر الإسلامي السنوي الهام وحرصهم على إتاحة الفرصة لأصحاب الرؤية والفكر للقاء والتحاور في موضوعات أساسية تخص شؤون المسلمين بشكل عام ، وشؤون المسلمين الأمريكيين بشكل خاص.
-إخوتي و أخواتي الكرام ..
إن أُمتنا الإسلامية التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله تعالى( وجعلناكم أمة وسطا) قد تشكلت في ظروف تاريخية حساسة لتعبر عن مسار بشري واعد ، شعاره التوحيد لله والعدالة الإنسانية وإشاعة السلام وترسيخ المودة والرحمة بين الناس ، وتكريس الوسطية والاعتدال في التفكير والسلوك ، في كل مناحي الحياة ، وهذه أمور واضحة لكل من يتخذ من هذا الدين معتقدا وشرعة ومنهاجا .
قال تعالى " لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ " المائدة(48)
-ومن هنا يتوجب التأكيد للجميع بأن ديننا الإسلام يُجسد عدداً من السمات والخصائص الراسخة:
-فالإسلام ليس دينا جديدا : وإنما يمثل امتدادا لكل الأديان السماوية الحقة التي مثلها و قادها أكثر من (124) ألف نبي و رسول منذ نبي الله آدم (عليه السلام) حتى نبينا و قائدنا الخاتم محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) ، وهؤلاء بعثوا بأمر الله لإرشاد و هداية الناس و إيجاد الصلة بينهم و بين الخالق العظيم ، معرفة وعبادة و تفسيرا للحياة و ما قبلها و ما بعدها بلطف إلهي وعناية ربانية .
قال تعالى "وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَٰبِ وَمُهَيْمِنًا عليه" المائدة (48)
ولذا يؤكد الإسلام بأنه امتداد و تراكم وخلاصة لمسيرة هؤلاء الكرام الذين لا نفرق بين أديانهم و كتبهم و رسالاتهم في الاحترام والتقديس و لا نجد تقاطعا معهم ، فالمعيار الإلهي الذي يميز الناس عن بعضهم هو البر والتقوى والعبودية الخالصة لله و الطاعة الواعية لرسله وكتبه وملائكته واتباع صراطه المستقيم .
قال تعالى " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ " الحجرات (13)
-هذه الرؤية الدينية الواضحة هي التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله تعالى:(وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) البقرة (143) بمعنى تكونوا شهداء وأمناء على هذا الخط الإلهي و الامتداد الرباني بكل مسؤولية و وعي وادراك ، ليشهد لكم رسولكم الكريم بالأمانة والصدق والفلاح والتوفيق في الحفاظ على هذا الإرث و التراث و الامتداد السماوي.
-إن الإسلام وكما هو واضح من جذره اللغوي دين ملؤه الرحمة والسلام والقسط والعدل والإحسان ، وهو الدين الذي لا يقبل لأتباعه ( بالإثم والعدوان ) اتجاه الآخر مطلقاً ، سواء المسلم او غير المسلم فالإنسان في خطاب القرآن الكريم على ثلاثة مستويات:
( التناجي و التعاون و التعامل ) بمعنى :
١-التفكير والتخطيط للعدوان ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )|. المجادلة (10،9)
٢-التوجيه بالتعاضد والتعاون في معرض الخير ، والنهي عن ذلك في معرض العدوان ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾. المائدة (2)
٣-الفعل والعمل ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) المائدة (62) ، إذ يؤكد سبحانه نبذه للعدوان بالقول : (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين) الأعراف (55).
إذن لا يحق للمسلم البدء و لا التفكير بالإثم والعدوان ولا الاضرار بالآخر في أي مرحلة من مراحل حياته إلا أن يكون في مقام الدفاع عن النفس والحفاظ عليها في موارد استثنائية ومحددة ومشروطة بشروط دقيقة جدا .
-كما إن الاسلام يجل و يقدر كثيرا التعقل والتدبير والتفكر والتعلم والاهتمام البالغ بالعلم و العلماء و المعارف ، مما يجعل المسلم في تعارض مع الجهل والخرافة والتخلف.
وهذه السمات الملازمة للإسلام يجب الالتزام بها من قبل المسلمين عبر المشاركة الفاعلة في إعمار الأرض وفي الاكتشافات والابداع في العلوم و المعارف، إلى جانب نظرائهم الآخرين من بني البشر وشركائهم في الحياة على وجه البسيطة.
-جدير بالذكر أن الإسلام يؤكد دوما على اتخاذ طريق الاعتدال منهجا في عموم المواقف و مراحل الحياة :
ومن هنا فإن لزاماً على المسلم أن يكون معتدلا متوازنا في مواقفه بأزاء الماضي والحاضر والمستقبل ، من حيث المرونة وعدم الجمود على معطيات التاريخ ، وعدم إهمال الحاضر أو تجاهل المستقبل ، فلا يناسب المسلم أن يكون غارقا في أمجاد الماضي تاركا حاضره ومسؤولياته و مهملا لمستقبله ومتطلباته .
ويجدر بالمسلم أن يكون أصيلا في تراثه و جذوره ، ومجدداً في وجوده و حضوره ، متأملا في مستقبله و ما سيقدمه للأجيال القادمة .
كما يجب عليه أن يكون متوازنا بين التزاماته العبادية والدينية والروحية وبين متطلباته المادية و الجسدية و المعيشية ، فلا رهبانية في الإسلام ولا مبرر للمسلم بالتخلي عن طلب المعيشة والإفادة من طيبات الحياة و ملذاتها المشروعة.
قال تعالى "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة"
إن هذا التوازن الدقيق يمنح المسلم القوة والعزيمة والامكانية الكاملة للاندماج والتأثير في شؤون الحياة كافة وطلب خيراتها في الدارين (الدنيا والآخرة) بمنهج إيماني وإنساني قويم .
قال تعالى "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً"النحل (97)
من هنا أدعو إخوتي و أخواتي المسلمين الكرام في الولايات المتحدة وأذكرهم بالآتي:
أولا: التآخي والوحدة والتآلف والتكاتف فيما بينهم : بعيدا عن الأطر المذهبية والتعصبات الفئوية الضارة ، ( إنما المؤمنون إخوة ) و لا كلام فوق كلام الوحي .
إن الآخر غير المسلم لا يرانا إلا كتلة واحدة بعقيدة موحدة ، وهذا يجب أن ينعكس تماما في أفعالنا وأقوالنا وعلاقاتنا فيما بيننا من جهة ومع الآخر في التعامل و التعايش و الشراكة الإنسانية من جهة أخرى.
ثانيا : إزالة الأوهام والتشوهات التي تعرض لها الإسلام بفعل فئات قليلة متطرفة وأجندات معادية من خلال التعريف بالإسلام الأصيل ومعالمه الرحمانية والإنسانية والمعرفية الناصعة .
لنكون بذلك خير سفراء لنبينا عليه و على آله أفضل السلام.
ثالثا :استثمار الحريات و الفرص و الامكانيات المتوفرة في الولايات المتحدة الأمريكية لصالح الإسلام والمسلمين ، من خلال الاندماج المجتمعي والالتزام بالقوانين النافذة والتعايش السلمي من نافذة المواطنة الصالحة والأدوار الفاعلة والواعية .
رابعا : إن النخب المسلمة الأمريكية يجب أن تكون صاحبة بصمة و تأثير في دوائر القرار المجتمعي و السياسي و أن لا تنغلق على نفسها و محيطها.
وننتظر دوماً أن نرى بصماتكم العلمية والاقتصادية والثقافية والسياسية في الولايات المتحدة و انعكاس ذلك على العالم .
خامسا: الحفاظ على الهوية الإسلامية الأصيلة للمسلمين في الولايات المتحدة سواء كانوا مواطنين أو مهاجرين أو مقيمين ، من الرجال أو من النساء ، أو الأطفال أو الشباب أو الكبار ، وعقيدتنا التي لا تتعارض مع التعايش والاندماج والشراكة مع الآخر ونضاعف التمسك بهويتنا.
إن ذوبان الهوية يساوي انعدام الجذور ، ومن لا جذور له ، لا احترام له من الآخرين ، فالأصيل ليس كالتابع والمبدع ليس كالمستهلك .
إن كونك مسلماً ملتزماً بهويتك الإسلامية لا يتعارض مع كونك مواطناً أمريكياً صالحاً وفاعلاً في محيطك العام.
ومثلما استطاع الإنسان المعاصر أن ینمي روح المواطنة المسؤولة تجاه بلده وشعبه.. فعلیه أن ینمي روح المسؤولية العالمية الحريصة تجاه العالم والكون وما یحتاج إلیه من رعایة إنسانية تجاه متغيرات البيئة والمناخ وغیر ذلك من الاهتمامات العالمية الكبرى.
فمن خلال تنمية المسؤولية العالمية لدى كل واحد منا.. سنتمكن بالتأكيد من تعزيز النظرة الشمولية لتلك المبادئ السامیة والنبيلة في الأدیان والشرائع.
لدینا في العراق ، تجربة رائدة في مواجهة التطرف والانغلاق من حیث الأحداث والمعطيات التي تولدت خلال عشرين عاماً الماضية .. فلقد استطاع العراقيون أن یتحرروا من نظام شمولي دكتاتوري نحو نظام ديمقراطي تعددي ، عبر تحررهم من الانغلاق والتطرف... والانفتاح على العالم.
فقد استطاع العراقيون أن یبنوا عملية سیاسیة تشترك فيھا جميع مكوناتهم الاجتماعية على اختلاف أعراقهم ومذاھبھم الدینیة والفكرية ، من خلال اعتمادهم على مبدأ الاعتدال والوسطیة والحوار الدائم مع الآخر المختلف.
لقد واجه العراق أعتى جماعات التطرف والانغلاق من خلال حربه النبیلة ضد جماعات القاعدة التكفیریة مطلع القرن الحادي والعشـریـن... كما واجه تـنظیم داعـش الإرھابي وانتصر عليه بإرادته الإسلامیة السامیة وقیمه الأصیلة الراسخة.
والیوم یمضي العراقيون نحو اكمال مشروعهم في البناء وتعزيز فرص العمل والحیاة الحرة الكريمة لجمیع العراقیین بلا إستثناء.
لقد تمكن أتباع أھل البیت (ع) وھم الأكثرية في العراق من وأد بذور الفتنة الطائفیة والعرقیة التي حاول أعداء التجربة الديمقراطية في العراق إشعالها بین فترة وأخرى داخل المجتمع العراقي.
وقد فشل المغرضون بفضل وعي وحكمة العراقیین وتمسكهم بمنهج إسلامهم الأصيل الذي ينبذ العنف والفرقة بین الشعوب والمجتمعات، ویدعو إلى الحوار والحكمة والموعظة الحسنة، ویؤكد على احترام الخصوصيات المجتمعية وحقوق الناس في اختيار ما يؤمنون به، فلا اكراه في الدین، ولكل حريته في الاعتقاد والتفكير والرأي وبمرجعيتهم العليا.
بهذه النظرة المنفتحة والواعية والحكيمة استطاع العراقيون أن يتجاوزوا فـوارق الاختلاف في العقيدة والمذهب ومضوا نحو بناء الدولة والمجتمع المدني الذي یؤمن بحق الفرد العراقي في اختبار دینه ومذهبه .. على قاعدة : (كلكم لآدم وآدم من تراب).
إنني أدعـو إلى إمعان النظر في التجربة العراقية لاستخلاص العبر والدروس منھا.. ولاسيما في حقل الاجتماع السياسي وكیف استطاعت السیاسـة العراقية الوطنية أن تتبنى مبدأ المشاركة المجتمعية في الحكم، وتزیل الفوارق التي اتبعتها الأنظمة القمعية الشمولية السابقة.. التي كانت تصنف المواطنة العراقية على أساس القومية والمعتقد والطائفة.
كذلـك استطاعت التجربة العراقية ترسيخ مـبدأ المواطنة ، انطلاقا من مفھومھا الإسلامي.. فحب الأوطان من الإيمان.. وقد شكل أتباع أھل البیت (ع) مثلا يحتذى ، في الدفاع عن حقوق العراقیین أينما كانوا في كل شبر من أرض العراق من خلال دفاعهم المقدس عن وطنهم ، ضد داعـش الإرهابي في الموصل والأنبار وصلاح الدين و ديالى وغیرھا من المناطق التي تعرضت الى اعتداء ھذه الزمر الإرهابية الظلامية.
اسأل الله أن یدیم الأمن والأمان والسلام في العراق والعالم جميعا وأن یعم الاعتدال والحكمة في العالم كله بعيدا عن التطرف والانغلاق والبغضاء.
متمنياً لمؤتمركم النجاح والسداد
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..