نص كلمة السيد الحكيم في المؤتمر الدولي الثالث للآفاق المستقبلية لأتباع اهل البيت ( عليهم السلام) 1446هـ - 2025م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين
أصحاب السماحة والفضيلة والسيادة..
الإخوة والأخوات الكرام ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
نجتمع مرة أخرى في رحاب أمير المؤمنين ويعسوب الدين إمامنا علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، هنا في عاصمة السلام بغداد إلى جوار مرقد الإمامين الكاظم والجواد (عليهما السلام) وعلى مقربة من مراقد السفراء الأربعة لإمام زماننا (عجل الله فرجه الشريف) ، لإقامة الدورة الثالثة على التوالي من مؤتمرنا الواعد ، مؤتمر الآفاق المستقبلية لأتباع أهل البيت (عليهم السلام) ، لتدارس أحوال الأمة و شؤون أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وتفعيل سبل الارتقاء والنهوض بمسؤولياتنا الإنسانية والإسلامية والمذهبية تجاه مجتمعاتنا أفراداً وشعوباً في أوطاننا و دولنا، للتعارف والتفاعل والتحاور، ولتبادل الأفكار والرؤى ، وصولاً إلى استتشراف مستقبل أتباع أهل البيت (عليهم السلام) وتقديم الحلول والمعالجات للتحديات والعقبات.
ويأتي ذلك انطلاقا من حرصنا الشديد على المشاركة في ايجاد مساحةٍ حرة ، و واحة متنوعة ، وساحة التقاء و تعاون فاعلة لجميع النخب الكريمة من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بتعدد انتمائاتهم القومية والوطنية و مشاربهم الفكرية ، لغرض مراكمة التجارب والأفكار وتبادلها بما يعم نفعه على الجميع واستقاء العبر و الدروس ومعالجة نقاط الضعف أو موارد الوهن عند الجماعة الصالحة المنتمية لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
-ومن منطلق قوله عليه السلام ( من تساوى يوماه فهو مغبون) ، نقول إن دورات هذا المؤتمر يجب أن لا تتساوى ولا تكون مقتصرة على تحقيق الاجتماع وتجديد اللقاء رغم أهميته الكبيرة فهو إضافة إلى تحقيق اللقاء ، يهدف إلى تعزيز التراكم وتحديث آليات التعامل مع التحولات و المتغيرات بمرونة و واقعية وتفكير عملي سليم ، بعيداً عن أي أجندات أو تكتلات أو مآرب سياسية.
-إن مؤتمركم هذا نجح ولله الحمد بنحو تصاعدي في استقطاب هذه النخب الكريمة من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) لميزة أساسية ومحورية وهي السقف العالي لحرية الأفكار المطروحة فيه و المستوى العلمي الرصين وعدم الانسحاب لأي توجه سياسي داخلي أو عابر ، لأن هدف المؤتمر لا ينشغل بإيجاد تكتل سياسي أو بالعمل في دائرة السياسة بل الأساس فيه هو احترام التنوع و التعدد الشيعي على المستويات كافة ولجميع الانتماءات والتوجهات.
ولايقدم المؤتمر نفسه منافساً ولا موازياً ولا متدافعاً مع أية مشاريع هادفة أخرى بل إنه يسعى للتكامل مع جميع المساحات وتقديم أفضل ما يمكن تقديمه خدمة للصالح العام.
وإذ نجدد في مؤتمرنا التأكيد على الثوابت الأصيلة وفي مقدمتها الحفاظ على هوية وأصالة وعقيدة الجماعة الصالحة من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) من جهة ، فإننا نجدد الدعوة الى قراءة الواقع والتعامل معه ومع مستجداته بروحية فاعلة وعقول منفتحة ونفوس واعية لتطوير مجتمعنا الكبير فكرياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وفي جميع الاتجاهات.
وهذا التوازن يتطلب منا جميعاً مزيداً من التفكير والتأمل والمراجعة والجهد والسعي الخلاق.
-إن العقيدة النابعة من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) تؤسس لمفهوم الطاعة الواعية ، وهي فكرة توحيدية مستقاة من الوحي في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم) ، وهو إيمان راسخ يشير إلى ثلاثية التوحيد والرسالة والولاية ، مصدراً للوجود ومرجعاً للتشريع ومنبعا للتأويل ، فضلاً عن القيادة والهداية والتصويب، حفاظا على الخط الإلهي للجماعة البشرية المنتمية في عقيدتها للتوحيد نهجاً وصراطا مستقيما لا عوج فيه ، بقيادة منتقاة ومصطفاة من مجموع الأنبياء و الأوصياء في تراتبية ومنظومة محكمة مترابطة ، و متسلسلة ، لم يساورها وهن ولا اختلاف ولا انقطاع منذ تأسيسها ، وهو خط لا يوازيه خط بشري آخر ، من حيث التأريخ والتماسك والانتظام والتراكم والاستمرار في مسيرة إعجازية مسددة ومدعومة من السماء ، تشعر المنتمين إليها بالمدد و الفيض و الدعم والرعاية الدائمة.
-هذه العقيدة التوحيدية التي حمل رايتها خاتم الأنبياء و سيدهم نبينا وقدوتنا محمد المصطفى ( صلى الله عليه وآله وسلم) ، بنسختها الأكثر تكاملاً وشمولاً بحسب عقيدتنا ، المتمثلة بالشريعة الإسلامية الحنيفة ديناً ومنهجاً ، قد رفع لواء مسؤوليتها والحفاظ على نموذجيتها واستمرارها بعد رسولنا الكريم أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، ارتكازاً على طبيعة انتماء المؤمنين وطاعتهم و ولائهم ، للأئمة وإمامتهم ومكانتهم التكوينية والروحية (عليهم السلام) في مسيرة شاقة وصعبة ، كانوا ولا يزالون يدفعون التضحيات الجسام في سبيلها صوناً ودفاعاً وإيماناً.
-إذن فالطاعة الواعية نتاج العقيدة و أما هوية الجماعة فتتمثل بالولاء الخالص للقيادة المعصومة ولاء روحيا وقلبيا وعقليا عن قناعة ومعرفة و وعي يتبعها القول الصالح والعمل الصالح.
-إن مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وفي تاريخها الطويل و الحافل بالعطاء الإنساني والديني والمعرفي كانت وما زالت تصدر مفاهيمها السامية ومبادءها القويمة وفي المقدمة منها الآتي:
- إنها مدرسة العدالة والاعتدال: فالعدل أصل من أصول ديننا ومذهبنا والعدالة مبدأ أصيل من مبادئنا ، ومن أجل العدالة عارض أئمتنا وقادتنا كل أشكال الظلم و الجور في العالم.
يعتقد البعض خطأً أن العدالة عند أتباع أهل البيت (عليهم السلام) عبارة عن مطلب مذهبي لجلب منفعة داخلية ، أو رفع ظلامة تاريخية.
كلا .. إنه مبدأ غير قابل للتجزئة، فأئمتنا لم يرفعوا شعار العدالة لرفع الحيف عن أتباعهم فحسب ، بل جعلوا العدالة مبدأ يسير عليه أتباعهم نهجا و مسطرة في التعامل مع الآخر وفي المطالبة بحقوقهم وحقوق المظلومين والمستضعفين في الأرض وإشاعة هذا المفهوم في كل مكان، حتى إن كان ذلك عبر الاستنكار القلبي والتعبير اللساني و المعارضة الفكرية والثقافية.
إن أتباع أهل البيت (عليهم السلام) لم يطالبوا يوماً بالعدالة والتعامل العادل لأنفسهم فحسب ، بل إنهم وقفوا مع كل من رفع هذا الشعار ودافعوا عن كل مظلوم و عارضوا كل أنواع الظلم والقهر والاستبداد.
لم يقف أتباع أهل البيت (عليهم السلام) مع القضية الفلسطينية مثلاً لأن الفلسطينيين مسلمون ومنتمون للإسلام فحسب ، بل وقفوا معهم عن مبدأ ودفعوا أثماناً غالية دفاعا عنهم لكونهم مسلمين مظلومين ومقهورين وهو ذات الموقف تجاه المسيحيين و الإيزديين و الكورد والتركمان وغيرهم من الجماعات القريبة والبعيدة أينما تعرض فرد أو جماعة أو شعب للظلم واستلاب الحقوق.
فالعدالة دين والاعتدال منهج ، وكما لم نقبل الظلم تجاه أبناء جلدتنا فإننا لا نقبل ذلك لأي إنسان على وجه الأرض ومن أي عرق أو قوم أو دين أو مكان.
إن مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) هي مدرسة الانصاف ، والتوازن، والاعتدال ، والوسطية ، في كل الأحداث و المواقف وعلى المستويات كافة.
إن مبدأ العدالة والسعي لتحقيقه ، والأمل بتطبيقه يبقى ملازماً لأتباع أهل البيت (عليهم السلام) ولو بقي من الدهر يومٌ واحدٌ كما في قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجلٌ من أهل بيتي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا".
والهدف من ذلك هو رضا الله وسكينة أهل الأرض والسماء أي كافة الناس والموجودات بتنوعها كما ورد في الحديث النبوي الشريف : (أبشركم بالمهدي يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلزال يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جوراً وظلماً يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، وفي تعبير آخر: (يملأ قلوب عباده عبادة ويسعهم عدله )، والهدف النهائي يكمن كما في قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (فيملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملأها القوم ظلما وجورا).
إنها العقيدة المهدوية الهادفة إلى اقامة العدل كنتيجة حتمية لخط الوحي والأنبياء والأوصياء والموالين لهم والمتبنين لمدرستهم.
- إنها مدرسة السلام لا الحرب والعدوان ، ومدرسة الانفتاح لا التقاطع ومدرسة الحوار لا التعصب ومدرسة المعرفة لا الجهل ومدرسة الاعتدال لا التطرف.
هذا هو تاريخنا ومواقفنا وهذه رؤيتنا ومدرستنا.
ما لا يدركه الآخرون أحيانا هو أننا لا نرفع شعار السلام بغطاء الاستسلام ضعفاً أو جبناً أو طلباً للعافية أو تقية.
فلا تنقصنا الشجاعة عند الشدائد والمصاعب ،وحيثما تطلب الأمر التضحية والدفاع والاستقامة بادرنا بذلك.
ولكن الأصل عندنا أننا مسلمون مسالمون نطلب السلام لنا و لغيرنا إيمانا بكرامة الإنسان وحرمة دمه وعرضه وماله وضرورة الشراكة الإنسانية والعيش المشترك ، فالناس في مدرسة علي صنفان : (إما أخ لنا في الدين أو نظير لنا في الخلق).
وعندما نقول أننا نؤمن بالانفتاح و الحوار فلا نقول ذلك مجاملة أو ترفا أو بطرا ، بل لأننا نؤمن بالعقل نعمة و ركيزة، وبالعيش سلاما وشراكة ، وبالحوار الحسن نهجا ومنهجا، وبالتبادل والتحاور حلا ومخرجا لجميع الأزمات والإشكاليات.
كما أننا نؤمن بالعلم والمعرفة والعقلانية سبيلا وحيدا لتقويم الأخطاء وإصلاح الأمور والنهوض بالواقع الإنساني وأن يكون لأتباع هذه المدرسة بصمة صالحة و مشاركة فاعلة في الحضارة الإنسانية وعناوينها الكبرى.
- إن مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) هي مدرسة الحرية لا الإكراه ، ومدرسة العقل لا التعصب.
-لأتباع هذه المدرسة كامل حريتهم في اختيار ما يرونه صالحا لمصالحهم و أوطانهم و دولهم وشعوبهم وأسرهم وأنفسهم بما يضمن لهم العيش الكريم و التفاعل القويم مع شركائهم الآخرين في إطار ثوابتهم و تعاملهم المرن مع المتغيرات والمستجدات.
وهنا يظهر احترام التعدد والتنوع في هذه المدرسة من جهة ، وحرية الاختيار والقرار والحركة من جهة أخرى، فضلاً عن احترام الانتماءات الإنسانية والوطنية والقومية لأفراد وشعوب الجماعة الصالحة على طريقة المواطنة الصالحة ولوازمها.
- إنها مدرسة الاجتهاد لا الجمود ومدرسة التشخيص لا التعويم ومدرسة التفكير لا القياس ، وما لذلك كله من أثر بالغ على تطور حوزاتنا العلمية وترابطها مع المجتمعات والأفراد على حدٍ سواء.
إن مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) تتجلى بسطوع في مقولة الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ( علَينا إلْقاءُ الاُصول إلَيكُم، وعليكمُ التَّفْريعُ) ، أي علينا تقديم الثوابت إليكم وعليكم الاجتهاد في دائرة تلك الثوابت.
-لاشك في أن الأحداث الكبيرة التي حصلت في هذه السنة على المستوى الإقليمي والدولي كان لها الأثر البالغ على منطقتنا وعلى العالم وجماعة أهل البيت (عليهم السلام) ، وما جرى من صراعات و نزاعات و حروب في الشرق الأوسط أفرزت العديد من الوقائع ، منها:
-أن جماعة أهل البيت (عليهم السلام) بقوا متمسكين بمفهوم الدفاع عن المظلوم والمطالبة بالعدالة من خلال وقوفهم إلى جانب الشعبين الفلسطيني واللبناني و تبني قضيتهما الحقة.
وقد دفعوا في ذلك الأثمان الباهضة و خرجوا من هذا الامتحان مرفوعي الرأس رغم التضحيات الكبرى والفدائح الجسام على المستوى القيادي والبشري والمادي.
نحن نرى بأن هذه التضحيات لم تكن إلا نجاحاً آخر لاختبار التمسك بمبدأ العدالة و الدفاع عن المظلوم ، وقد ظهر ذلك على المستوى القيادي المتمثل بالمرجعية الدينية العليا وبياناتها في الحث والتأكيد على التفاعل مع هذه القضية بموازاة القواعد الجماهيرية التي أظهرت تفاعلها على المستويات السياسية والإعلامية ، والميدانية ، والإغاثية كافة.
وهذا يدل على مدى ترابط القيادة والقاعدة من جهة و مدى تماسك الجمهور الشيعي والحراك المنتظم لهم من جهة أخرى.
لم يكن أتباع أهل البيت (عليهم السلام) يوماً دعاة حرب أو تجاوز أو اعتداء ، وكل ما قاموا به هو في إطار الدفاع عن النفس ضمن منظومة عقيدية وفكرية رصينة تطالب بالسلام العادل و العدالة الحقيقية واستيفاء الحقوق.
لقد بقي أتباع أهل البيت (عليهم السلام) الجماعة البشرية المتمسكة بقيمها الإنسانية والإسلامية والحضارية في الدفاع عن حرية الشعوب وحقوق الإنسان وايقاف الحروب والمطالبة بالسلام.
والسلام الحقيقي هو ذلك السلام العادل الذي يتيح لكل ذي حق أن ينعم بحقه ، لا ذلك السلام الذي يكون بالقفز على حقوق جماعة بشرية لحساب جماعة أخرى، وهنا يكمن الاختلاف الحقيقي بين دعاة السلام المزيفين و دعاة السلام الحقيقيين.
إخوتي وأخواتي الأكارم ..
نحن على عتبة مرحلة جديدة تستدعي من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) التكاتف والتعاضد في اظهار حقيقة ما جرى فكرا و إعلاما وحراكا ، كلا من موقعه.
والعمل على تعويض الخسائر بقطف الثمار وتحويل التحديات إلى فرص و المحن إلى منح ، من خلال توضيح الوقائع و كشف الحقائق للعالم أجمع.
-نحن بحاجة إلى حراك عالمي فاعل ، لتثبيت قيمنا المدافعة عن الإنسان بوصفه إنساناً أينما كان و أينما تعرضت حقوقه إلى جور أو تعد أو تجاوز ، وإلى ترسيخ حقيقة مطالبتنا بالسلام والانصاف و العدالة للجميع.
-إن جميع التضحيات والخسائر يمكن أن تعوض عندما نكون واعين لأهدافنا ومسؤولياتنا وأسبابها من أجل تعزيز مكانة أتباع أهل البيت (عليهم السلام) وفاعليتهم وأدوارهم المنشودة.
-أتمنى لمؤتمركم النجاح ، ولمهامكم الرسالية التوفيق والسداد ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.